## شربل داغر في "يغتسل النثر في نهره": حين يفيض الشعر على ضفاف الكتابة
**مقدمة: احتفاء مستحق بتجربة متفردة**
في عالم الأدب العربي المعاصر، حيث تتعدد التجارب وتتشعب المسارات، يأتي فوز الشاعر والمفكر اللبناني
شربل داغر بجائزة "أبو القاسم الشابي" المرموقة في تونس لدورته الثلاثين
لعام 2024 عن ديوانه الشعري "يغتسل النثر في نهره" (الصادر عن دار خطوط
وظلال للنشر والتوزيع، الأردن)، ليمثل علامة فارقة وتتويجاً مستحقاً لمسيرة
إبداعية وفكرية غنية ومتنوعة. لم يكن منح الجائزة لهذا العمل محض مصادفة، بل جاء،
كما أشار بيان لجنة التحكيم، نتيجة "لاختلاف الكتاب عن الكثير من السائد في
قصيدة النثر، وفي البناء الشعري والمعرفي، ولما تميز به وما احتواه من لغة حية،
وبنية محكمة، وكتابة موقعة متعددة مشرعة على الأجناس الأدبية".
![]() |
## شربل داغر في "يغتسل النثر في نهره": حين يفيض الشعر على ضفاف الكتابة |
هذا التقييم الدقيق يضعنا
مباشرة أمام جوهر تجربة داغر في هذا الديوان: تجربة تتجاوز القوالب الجاهزة، وتؤسس
لفسحة خاصة تمتزج فيها الرؤية الفلسفية بالنبض الشعري، وتتداخل فيها الأجناس
الأدبية بتناغم فريد.
**فلسفة المشي استدعاء الذاكرة وولادة الذات**
.jpeg)
لا يظهر المشي هنا كمجرد حركة فيزيائية أو رياضة للبدن، بل يرتقي ليصبح فعلاً
وجودياً، أداة استكشاف للذات والعالم، ومحفزاً عضوياً للكتابة الإبداعية. يقول
داغر في مقطع لافت:
- > "(ففي التمشّي ما يلدني، من دون أن أنتظر بطاقة ثبوتية من جالسِين يتفقدون النسب، والعصبية
- وتقطيبة الحاجبين لدى الأجداد... لعلي كنت أتمشَّى، وأنا أكتب. لعلي كنتُ أكتب، وأنا أتمشَّى... لعل
- الماشي يتقدم بخفة النحلة، أو بعزم النسر... حيويةَ ما تفعلُه القصيدة في تنقلها الحر صوب بيتِها
- الافتراضي، والأكيد في آن)."
هنا، يتجلى المشي كعملية ولادة متجددة للذات الكاتبة، بعيداً عن قيود الهوية المفروضة وسلطة الأنساب والتاريخ المُعلّب.
إنه حالة من التماهي بين حركة الجسد في المكان وحركة الفكر
واللغة على الورق أو في الذهن. المشي يصبح رديفاً للكتابة، كل منهما يغذي الآخر
ويستلهمه. الأهم من ذلك، أن المشي لدى داغر ليس أداة لاستجلاب الذاكرة قسراً، بل
هو السياق الذي "يستدعيها"، كما يقول. الذاكرة لا تُنعش بقرار واعٍ بقدر
ما تتدفق بشكل طبيعي وتلقائي بفعل الحركة والتأمل المصاحب لها. إنها ذاكرة ليست
مرتهنة للماضي فقط، بل هي مرتع خصب للكتابة الحاضرة، تنبثق منها الأفكار بطراوة
وعفوية، لتمد النص الشعري أو النثري بطاقة إبداعية متجددة، تمزج بين الواقعي
والمتخيل.
- ومع أن هذا الارتباط بالطبيعة من خلال المشي قد يوحي بنزعة رومانسية، إلا أن داغر يسارع
- لتوضيح مقصده بدقة: "لستُ بشاعر يلوذ بالطبيعة، أو يجعل منها مثالاً للفن والأدب، وإنما أعود إليها
- طلباً لملامسة الوجود في عناصره البدئية، من شجر وطير وصخر ونهر...". هذا التمييز جوهري،
- فهو لا يبحث عن محاكاة جمالية للطبيعة أو اتخاذها نموذجاً مثالياً، بل يسعى إلى احتكاك وجودي
- مباشر مع عناصرها الأولية، وكأن في هذه الملامسة استعادةً لحقيقة بدئية للوجود تضيء تجربته
- الشعرية والفكرية.
**النهر مجازاً مركزياً الشعر ينبوعاً للحياة والنص**
![]() |
## شربل داغر في "يغتسل النثر في نهره": حين يفيض الشعر على ضفاف الكتابة |
إذا كان المشي هو الإطار الفلسفي والحركي للتجربة، فإن "النهر" هو المجاز المركزي الذي تتكثف حوله رؤية داغر الشعرية في هذا الديوان،
وهو ما يتجلى بوضوح في العنوان
الصادم والموحي "يغتسل النثر في نهره". النهر هنا ليس مجرد عنصر من
عناصر الطبيعة التي يلامسها الشاعر في تمشّيه، بل هو استعارة كبرى للشعر ذاته،
بتدفقه وحيويته وقدرته على التطهير والتجديد.
يقول داغر:
هذا التوازي بين جريان
النهر وجريان القصيدة يضعنا أمام مفهوم للشعر يتسم بالسيولة والحيوية والديمومة،
في مقابل جمود الواقع أو "غبار المدينة" الذي قد يعيق الرؤية الصافية. النهر/القصيدة
يصبح مصدر نقاء وصفاء. يتجلى هذا التماهي بشكل أعمق حين يخاطب الشاعر النهر وكأنه
يخاطب ذاته أو قصيدته:
> "(يا نهري،
يا أناي. نهرٌ ما يَمضي في مجراه، هذه القصيدة)."
هذا التوحد بين الأنا
والنهر والقصيدة يمنح النص بعداً وجودياً وحميمياً، فالشعر ليس مجرد صنعة لغوية
خارجية، بل هو امتداد للذات، يجري في مجرى الحياة نفسها. إنه يحمل ملامح من
الحلولية المعاصرة، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والموضوع، بين الشاعر والعالم،
بين الكلمة والوجود.
**سيولة الكتابة وتجاوز سطوة التنقيح**
.jpeg)
يدعو إلى التحرر
من قيود المراجعة المفرطة والتردد الذي قد يخنق الاندفاعة الأولى للكلام الشعري:
> "(اُترك
خلفكَ ما كتبتَ. هذا أوان الكلام من دون إبطاء، أو مراجعة. ما ستقوله، سيكون
عابراً وموجعاً، لأنك لن تقوى على استعادته أو محوه)."
- هذه الدعوة ليست مجرد تفضيل أسلوبي، بل هي موقف من طبيعة الإبداع. إنها تثمين للحظة التجلي
- الأولى، للدهشة الفطرية التي تميز الشاعر، والتي قد تضيع في متاهات التصحيح والتهذيب المتعمد.
- الكلام الشعري، في هذه الرؤية، يكتسب قوته من جريانه الحر، حتى وإن كان "عابراً وموجعاً"، لأن
- هذه العفوية هي جزء من صدقه وقوته. هذه الفكرة تجد صداها في ربط داغر بين العمر والكتابة
- والنهر:
> "(عُمْري / نهري.
/ شِعري / نثري، / العُمر مسَّودةٌ من دون تصحيح. / القصيدة نهرٌ لا تصبُّ في بحر،
بل في نثر)."
هنا تتكثف الفلسفة
الكامنة وراء الديوان. العمر، مثل النهر والشعر، يمضي في مساره كمسودة لا تقبل
التصحيح الجذري، لها تدفقها الخاص الذي يجب احترامه.
**جدلية الشعر والنثر النهر يروي ضفاف الكتابة**
.jpeg)
لعل العبارة الأكثر
إثارة للتأمل في المقطع الأخير هي "القصيدة نهرٌ لا تصبُّ في بحر، بل في نثر".
هذا التحول في مصب النهر/القصيدة من البحر (الذي قد يرمز إلى المطلق أو النهاية
التقليدية) إلى النثر، يفتح أفقاً جديداً لفهم العلاقة بين هذين الجنسين الأدبيين.
في رؤية داغر، لا يبدو الشعر والنثر كيانين منفصلين أو متعارضين بالضرورة، بل
يتداخلان ويتفاعلان. الشعر، بنهره المتدفق، لا ينتهي في فراغ أو بحر مجهول، بل يجد
مصباً له في النثر، يرويه، يغذيه، وربما يطهره ويمنحه حياة جديدة – تماماً كما
يوحي عنوان الديوان "يغتسل النثر في نهره".
- هذا يعني أن الشعر هو المنبع، الطاقة الأولية، الرافد الحيوي الذي يمنح النثر عمقاً وحساسية ورؤية.
- لا يتعلق الأمر بإلغاء الحدود بينهما بقدر ما هو إشارة إلى علاقة عضوية وجدلية، حيث يستمد النثر
- حيويته وصفاءه من انغماسه في نهر الشعر. هذه الرؤية تتناغم مع طبيعة كتابات داغر نفسه، الذي
- يتحرك ببراعة بين الشعر والنقد والفكر والفن، جاعلاً من نصوصه فضاءً رحباً تتجاور فيه هذه
- الحقول وتتلاقح.
**شربل داغر المثقف الموسوعي وصهر الأجناس**
لا يمكن قراءة "يغتسل
النثر في نهره" بمعزل عن المشروع الفكري والإبداعي الأوسع لشربل داغر. فهو
المفكر والناقد والشاعر والمؤرخ الفني الذي نسج عبر عقود شبكة معقدة ومتشابكة من
النصوص والدراسات التي تتناول قضايا الحداثة، واللغة، والهوية، والفن، والأدب
العربي. يتميز منهجه بالعمق التحليلي، والاتساع المعرفي، والقدرة على الربط بين
حقول تبدو متباعدة.
- يأتي هذا الديوان الشعري ليكثف العديد من هواجسه ورؤاه بلغة شعرية مكثفة ومبتكرة. إنه ليس مجرد
- مجموعة قصائد، بل هو تأمل في فعل الكتابة ذاته، وفي علاقة اللغة بالوجود، وفي تجليات الذات في
- العالم. البنية المحكمة، واللغة الحية والمشغولة بعناية، وتعدد المستويات المعرفية والشعرية التي
- أشادت بها لجنة تحكيم جائزة الشابي، كلها سمات تعكس نضج التجربة وعمقها. داغر في هذا العمل
- يمارس ما يدعو إليه: يترك لنهر شعره أن يروي نثره الفكري، ويغتسل نثره التأملي في نهر قصيدته
- المتدفقة.
**خاتمة إضافة نوعية للمكتبة العربية**
يمثل ديوان "يغتسل النثر في نهره" لشربل داغر إضافة نوعية للمشهد الشعري العربي المعاصر. إنه عمل يتحدى التصنيفات الجاهزة، ويقدم رؤية فلسفية وشعرية عميقة تتأسس على تجربة ذاتية في المشي والتأمل والكتابة.
من خلال مجاز النهر المركزي، يعيد داغر صياغة
العلاقة بين الشعر والنثر، ويؤكد على حيوية الشعر كينبوع متجدد يغذي فروع الكتابة
المختلفة. بفوزه بجائزة أبو القاسم الشابي، لم يحصل العمل على تقدير مستحق فحسب،
بل سلط الضوء أيضاً على أهمية التجارب التي تخرج عن السائد وتفتح آفاقاً جديدة
للتعبير والمعنى في الأدب العربي. إنه كتاب يدعو القارئ لا لمجرد القراءة، بل
للمشي معه في دروب اللغة والفكر، وللاغتسال في نهره الشعري المتدفق.
عناصر موضوع شربل داغر في "يغتسل النثر في نهره
.jpeg)